فصل: رحلة زين الدين نائب الموصل إلى إربل واستبداد قطب الدين بملكه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


 فتح نور الدين صافيتا وعريمة ومنبج وجعبر

ثم جمع نور الدين عساكره سنة اثنتين وستين واستدعى أخاه قطب الدين من الموصل فقدم عليه بحمص ودخلوا جميعاً بلاد الإفرنج ومروا بحصن الأكراد واكتسحوا نواحيه‏.‏ ثم حاصروا عرقة وخربوا جكة وفتحوا العريمة وصافيتا وبعثوا سراياهم فعاثت في البلاد ورجعوا إلى حمص فأقاموا بها إلى رمضان وانتقلوا إلى بانياس وقصدوا حصن حموص فهرب عنه الإفرنج فهدم نور الدين سوره وأحرقه‏.‏ واعتزم على بيروت فرجع عنه أخوه قطب الدين إلى الموصل وأعطاه نور ثم انتقض بمدينة منبج غازي بن حسان‏.‏ وبعث إليها العساكر فملكها عنوة وأقطعها أخاه قطب الدين ينال بن حسان وبقيت بيده إلى أن أخذها منه صلاح الدين بن أيوب‏.‏ ثم قبض بنو كلاب على شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي صاحب قلعة جعبر وكانت تسمى دوس ثم سميت باسم جعبر بانيها‏.‏ وكان السلطان ملك شاه أعطاها لجده عندما ملك حلب كما مر في أخباره‏.‏ ولم تزل بيده ويد عقبه إلى أن هلك هذا فخرج يتصيد سنة ثلاث وستين وقد أرصد له بنو كلاب فأسروه وحملوه إلى نور الدين محمود صاحب دمشق فاعتقله مكرماً‏.‏ وحاوله في النزول عن جعبر بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى فأبى وبعث بالعساكر مع الأمير فخر الدين محمود بن أبي علي الزعفراني وحاصرها مدة فامتنعت فبعث عسكراً آخراً‏.‏ وقدم على الجميع الأمير فخر الدين أبا بكر ابن الداية رضيعه وأكبر أمرائه فحاصرها فامتنعت ورجع إلى ملاطفة صاحبها فأجاب وعوضه نور الدين عنها سروج وأعمالها وساحة حلب وقراغة وعشرين ألف دينار‏.‏ وملك قلعة جعبر سنة أربع وستين وانقرض أمر بني مالك منها والبقاء لله وحده‏.‏

 رحلة زين الدين نائب الموصل إلى إربل واستبداد قطب الدين بملكه

قد كان تقدم لنا أن نصير الدين جقري كان نائب الأتابك زنكي بالموصل وقتل ألب أرسلان ابن السلطان محمود آخر سنة تسع وثلاثين وخمسمائة طمعاً في الملك لغيبة الأتابك فرجع من غيبته في حصار البيرة وقدم مكانه زين الدين علي بن كمستكين بقلعة الموصل فلم يزل بها بقية أيام الأتابك وأيام ابنه غازي وابنه الآخر قطب الدين سنة ثمان وخمسين على وزيرهم جمال الدين محمد بن علي بن منصور الأصفهاني فاعتقله وهلك لسنة من الاعتقال‏.‏ وحمل إلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم فدفن بها في رباط هناك أعده لذلك‏.‏ وكانت وفاته أيام سيف الدين غازي بن قطب الدين فولى مكانه جلال الدين أبا الحسن ابنه‏.‏ وكان زين الدين علي بن كمستكين ويعرف بكجك قد استبد في دولة قطب الدين واستقل بحكم الدولة‏.‏ وصارت بيده أكثر البلاد إقطاعاً مثل إربل وشهرزور والقلاع التي في تلك البلاد الهكارية‏.‏ منها العمادية وغيرها والحميدية وتكريت وسنجار‏.‏ وقد كان نقل أهله وولده وذخائره إلى إربل وأقام بمحل نيابته من قلعة الموصل فأصاحبه الكبر وطرقه العمى والصمم فعزم على مفارقة الموصل إلى كسر بيته بإربل فسلم جميع البلاد التي بيده إلى قطب الدين ما عدا إربل‏.‏ وسار إليها سنة أربع وستين وأقام قطب الدين مكانه فخر الدين عبد المسيح خصياً من موالي جده الأتابك زنكي وحكمه في دولته فنزل بالقلعة وعمرها وكان الخراب قد لحقها بإهمال زين الدين أمر البناء والله تعالى أعلم‏.‏ ثم بعث صلاح الدين سنة خمس وستين إلى نور الدين محمود يطلب إنفاذ أبيه نجم الدين أيوب إليه فبعثه في عسكر واجتمع إليه خلق من التجار ومن أصحاب صلاح الدين وخشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج فسارت العساكر إلى الكرك وهو حصن اختطه من الإفرنج البرنس أرقاط واختط له قلعة فحاصره نور الدين وجمع له الإفرنج فرحل إلى مقدمتهم قبل أن يتلاحقوا فخاموا عن لقائه ونكصوا على أعقابهم‏.‏ وسار في بلادهم فاكتسحها وخرب ما مر به من القلاع وانتهى إلى بلاد المسلمين حتى نزل حوشب‏.‏ وبعث نجم الدين من هنالك إلى مصر فوصلها منتصف خمس وستين وركب العاضد للقائه‏.‏ ولما كان نور الدين بعشير أسار للقاء شهاب الدين محمد بن إلياس بن أبي الغازي بن أرتق صاحب قلعة أكبره‏.‏ فلما انتهى إلى نواحي بعلبك لقي سرية من الإفرنج فقاتلهم وهزمهم واستلحمهم وجاء بأسرى ورؤوس القتلى إلى نور الدين وعرف الرؤوس مقدم الاستبان صاحب حصن الأكراد وكان شجى في قلوب المسلمين‏.‏ وبلغه وهو بهذا المنزل خبر الزلازل التي عمت البلاد بالشام والموصل والجزيرة والعراق وخربت أكثر البلاد بعمله فسار إليها وشغل في إصلاحها من واحدة إلى أخرى حتى أكملها بمبلغ جهده‏.‏ واشتغل الإفرنج بعمارة بلادهم أيضاً خوفاً من غائلته والله تعالى أعلم‏.‏ ثم توفي قطب الدين مودود بن الاتابك زنكي صاحب الموصل في ذي الحجة سنة خمس وستين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ملكه وعهد لابنه الأكبر عماد الدين بالملك‏.‏ وكان القائم بدولته فخر الدين عبد المسيح وكان شديد الطواعية لنور الدين محمود ويعلم ميله عن عماد الدين زنكي بن مودود فعدل عنه إلى أخيه سيف الدين غازي ابن مودود بموافقة أمه خاتون بنت حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي‏.‏ ولحق عماد الدين بعمه نور الدين منتصراً به‏.‏ وقام فخر الدين عبد المسيح بتدبير الدولة بالموصل واستبد بها والله تعالى أعلم‏.‏

  استيلاء نور الدين على الموصل وإقراره ابن أخيه سيف الدين عليها

ولما ولي سيف الدين غازي بالموصل بعد أبيه قطب الدين واستبد عليه فخر الدين عبد المسيح كما تقدم وبلغ الخبر إلى نور الدين باستبداده أنف من ذلك وسار في خف من العسكر وعبر الفرات عند جعبر أول سنة ست وستين‏.‏ وقصد الرقة فملكها ثم الخابور فملك جميعه ثم نصيبين وكلها من أعمال الموصل‏.‏ وجاءه هناك نور الدين محمد بن قرا أرسلان ابن داود بن سقمان صاحب كيفا مدداً‏.‏ ثم سار إلى سنجار فحاصرها وملكها وسلمها لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين‏.‏ ثم جاءته كتب الأمراء بالموصل فاستحثوه فأغذ السير إلى مدينة كلك‏.‏ ثم عبر الدجلة ونزل شرقي الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل‏.‏ وكان سيف الدين غازي قد بعث أخاه عز الدين مسعود إلى الأتابك شمس الدين صاحب همذان وبلاد الجبل وأذربيجان وأصفهان والري يستنجده على عمه نور الدين فأرسل ايلدكز إلى نور الدين ينهاه عن الموصل فأساء جوابه وتوعده وأقام يحاصر الموصل‏.‏ ثم اجتمع امراؤها على طاعة نور الدين‏.‏ ولما استحث فخر الدين عبد المسيح استأمن إلى نور الدين على أن يبقي سيف الدين ابن أخيه على ملكها فأجابه على أن يخرج هو عنه ويكون معه بالشام‏.‏ وتم ذلك بينهما وملك نور الدين منتصف جمادى الأولى من سنة ست وستين‏.‏ ودخل المدينة واستناب بالقلعة خصياً اسمه كمستكين ولقبه سعد الدين‏.‏ فأقر سيف الدين ابن أخيه على ملكه وخلع عليه خلعة وردت عليه من الخليفة المستضيئ وهو يحاصرها وأمر ببناء جامع بالموصل فبني وشهر باسمه‏.‏ وأمر سيف الدين أن يشاور كمستكين في جميع أموره وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين وعاد إلى الشام والله تعالى أعلم‏.‏

 الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين

ثم سار صلاح الدين في صفر سنة تسع وستين من مصر إلى بلاد الإفرنج غازياً ونازل حصن الشوبك من أعمال واستأمن إليه أهله على أن يمهلهم عشرة أيام جابهم وسمع نور الدين بذلك فسار من دمشق غازياً أيضاً بلاد الإفرنج من جانب آخر وتنصح لصلاح الدين أصحابه بأنك إن ظاهرته على الإفرنج اضمحل أمرهم فاستطال عليك نور الدين ولا تقدر على الامتناع منه فترك الشوبك وكر راجعاً إلى مصر‏.‏ وكتب لنور الدين يعتذر له بأنه بلغه عن بعض سفلة العلويين بمصر أنهم معتزمون على الوثوب فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك واعتزم على عزله عن مصر‏.‏ فاستشار صلاح الدين أباه وخاله شهاب الدين الحارمي وقرابتهم فأشار عليه تقي الدين عمر ابن أخيه بالامتناع والعصيان فنكر عليه نجم الدين أبوه وقال له ليس منا من يقوم بعصيان نور الدين لو حضر أو بعث وأشار عليه بأن يكاتبه بالطاعة وأنه إن عزم على أخذ البلاد منك فسلمها ويصل بنفسه‏.‏ وافترق المجلس فخلا به أبوه وقال ما لك توجد بهذا الكلام السبيل للأمراء في طالتهم عليك‏.‏ ولو فعلتم ما فعلتم كنت أول الممتنعين عليه ولكن ملاطفته أولى وكتب صلاح الدين إلى نور الدين بما أشار به أبوه عن الملاطفة فتركهم نور الدين وأعرض عن قصدهم‏.‏ ثم توفي واشتغل صلاح الدين بملك البلاد‏.‏ ثم جمع نور الدين العساكر وسار لغزو الإفرنج بسبب ما أخذوه لأهل البلاد من مراكب التجار ونكثوا فيها العهد مغالطين بأنها تكسرت فلم يقبل مغالطتهم‏.‏ وسار إليهم وبث السرايا في بلادهم إنطاكية وطرابلس وحاصر هو حصن غرقة وخرب ربضه وأرسل عسكراً إلى حصن صافيتا وعريمة ففتحهما عنوة وخربهما‏.‏ ثم سار من عرقة إلى طرابلس واكتسح ما مر عليه حتى رجع الإفرنج إلى الانصاف من أنفسهم وردوا ما أخذوا من المكرمين الأعزين وسألوا تجديد الهدنة فأجابهم بعد أن خربت بلادهم وقتلت رجالهم وغنمت أموالهم‏.‏ ثم اتخذ نور الدين في هذه السنة الحمام‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ بالشام تطيراً إلى أوعارها من لاتساع بلاده ووصول الأخبار بسرعة فبادر إلى القيام بواجبه وأجرى الجرايات على المرتبين لحفظها لتصل الكتب في أجنحتها‏.‏ ثم أغار الإفرنج على حوران من أعمال دمشق وكان نور الدين ينزل الكسوة فرحل إليهم ورحلوا أمامه إلى السواد وتبعهم المسلمون ونالوا منهم‏.‏ ونزل نور الدين على عشير وبعث منها سرية إلى أعمال طبرية فاكتسحها وسار الإفرنج لمدافعتهم فرجعوا عنها واتبعهم الإفرنج فعبروا النهر وطمعوا في استنقاذ غنائمهم فقاتلهم المسلمون دونها أشد قتال إلى أن استنقذت وتحاجزوا ورجع الإفرنج خائبين والله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين بمنه وكرمه‏.‏

 واقعة ابن ليون ملك الأرمن بالروم

كان قليج بن ليون صاحب دروب حلب أطاع نورالدين محمود بن زنكي وأره على الحمالة وأقطعه ببلاد الشام وكان يسير في خدمته ويشهد حروبه مع الإفرنج أهل ملته‏.‏ وكان الأرمني أيضاً يستظهر به على أعدائه وكانت أدنة والمصيصة وطرسوس مجاورة لابن ليون وهي بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية فتغلب عليها ابن ليون وملكها‏.‏ وبعث صاحب القسطنطينية منتصف سنة ثمان وستين وخمسمائة جيشاً كثيفاً‏.‏ مع عظيم من بطارقته فلقيه ابن ليون بعد أن استنجد نور الدين فأنجده بالعساكر وقاتلهم فهزمهم وبعث بغنائمهم وأسراهم إلى نور الدين وقويت شوكة ابن ليون ويئس الروم من تلك البلاد والله تعالى أعلم‏.‏

 مسير نور الدين إلى بلاد الروم

كان ذو النون بن محمد بن الدانشمند صاحب ملطية وسيواس وأخصرى وقيسارية ملكها بعد عمه باغي أرسلان وأخيه إبراهيم بن محمد فلم يزل قليج أرسلان بن محمد بن قليج أرسلان يتخيف بلاده إلى أن استولى عليها‏.‏ ولحق ذو النون بنور الدين صريخاً‏.‏ وأرسل إلى قليج أرسلان بالشفاعة في رد بلاده فلم يشفعه فسار إليه وملك من بلاده بكسور ومهنسا ومرعش ومرزبان وما بينهما في ذي القعدة سنة ثمان وستين‏.‏ ثم بعث عسكراً إلى سيواس فملكوها‏.‏ ثم أرسل قليج أرسلان إلى نور الدين يستعطفه وقد كان يجيز أمامه إلى قاصية بلاده فأجابه نور الدين إلى الصلح على أن ينجده بعسكر الإفرنج ويبقي سيواس بيد ذي النون وعسكر نور الدين الذي معه فيها‏.‏ ورجع نور الدين إلى بلاده وبقيت سيواس بيد ذي النون حتى مات نور الدين وعاد قليج أرسلان‏.‏ ثم وصل رسول نور الدين من بغداد كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري ومعه منشور من الخليفة المستضيئ لنور الدين بالموصل والجزيرة وإربل وخلاط والشام وبلاد الروم وديار مصر والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 مسير صلاح الدين إلى الكرك ورجوعه

ولما كانت الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين كما قدمنا واعتزم نور الدين على عزله عن مصر واستعطفه صلاح الدين كان فيما تقرر بينهما أنهما يجتمعان على الكرك إيهما سبق انتظر صاحبه فسار صلاح الدين من مصر في شوال سنة ثمان وستين وسبق إلى الكرك وحاصره‏.‏ وخرج نور الدين بعد أن بلغه مسير صلاح من مصر وأزاح علل العساكر وانتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك فخافه صلاح الدين على نفسه خشي أن يعذله عند لقائه‏.‏ وكان استخلف أباه نجم الدين أيوب على مصر فبلغه أنه طرقه مرض شديد فوجد فيه عذراً لنور الدين وكر راجعاً إلى مصر‏.‏ وبعث الفقيه عيسى‏.‏ ذلك العذر وأن حفظة مصر أهم عليه‏.‏ فلما وصل مصر وجد أباه قد توفي من سقطة قطها عن مركوبه هزه المرح فرماه وحمل إلى بيته وقيذاً ومات لأيام قريبة آخر ذي الحجة من السنة‏.‏ ورجع نور الدين إلى دمشق وكان قد بعث رسوله كمال الدين الشهرزوري القاضي ببلاده وصاحب الوقوف والديوان لطلب التقليد للبلاد التي بيده مثل مصر والشام والجزيرة والموصل والتي دخلت في طاعته كديار بكر وخلاط وبلاد الروم وأن يعاد له ما كان لأبيه زنكي من الإقطاع بالعراق وهي صريفين ودرب هرون وأن يسوغ قطعة أرض على شاطئ دجلة بظاهر الموصل يبني فيها مدرسة للشافعية فأسعف بذلك كله‏.‏

 وفاة نور الدين محمود وولاية ابنه إسماعيل الصالح

ثم توفي نور الدين محمود بن الأتابك زنكي حادي عشر شوال سنة تسع وستين وخمسمائة لسبع عشرة سنة من ولايته وكان قد شرع في التجهز لأخذ مصر من صلاح الدين بن أيوب واستنفر سيف الدين ابن أخيه في العساكر مورياً بغزو الإفرنج‏.‏ وكان قد اتسع ملكه وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن لما ملكها سيف الدولة بن أيوب‏.‏ وكان معتنياً بمصالح المسلمين مواظباً على الصلاة والجهاد وكان عارفاً بمذهب أبي خنيفة ومتحرياً للعدل ومتجافياً عن أخذ المكوس في جميع أعماله وهو الذي حصن قلاع الشام وبنى الأسوار على مدنها مثل دمشق وحمص وحماة وشيزر وبعلبك وحلب وبنى مدارس كثيرة للحنفية والشافعية وبنى الجامع النوري بالموصل والمارستانات والخانات في الطريق والجواسق للصوفية في البلاد‏.‏ واستكثر من الأوقاف عليها‏.‏ يقال بلغ ريع أوقافه في كل شهر تسعة آلاف دينار صوري‏.‏ وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم ويتمثل لهم قائماً ويؤنسهم في المجالسة ولا يرد لهم قولاً وكان متواضعاً مهيباً وقوراً‏.‏ ولما توفي اجتمع الأمراء والمقدمون وأهل الدولة بدمشق وبايعوا ابنه الملك الصالح إسماعيل وهو ابن إحدى عشرة سنة‏.‏ وحلفوا له وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر وخطب له هنالك وضرب السكة باسمه وقام بكفالته وتدبير دولته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم وأشار عليه القاضي كمال الدين الشهرزوري بأن يرجعوا في جميع أمورهم إلى صلاح الدين لئلا ينبذ طاعتهم فأعرضوا عن ذلك والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

  استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة

قد كنا قدمنا أن نور الدين استولى على بلاد الجزيرة وأقر سيف الدين ابن أخيه قطب الدين على الموصل واحتمل معه فخر الدين عبد المسيح الذي ولى سيف الدين واستبد عليه بأمره‏.‏ وولى على قلعة الموصل سعد الدين كمستكين‏.‏ ولما استنفرهم نور الدين بين يدي موته سار إليه سيف الدين غازي وكمستكين الخادم في العساكر وبلغهم في طريقهم خبر وفاته‏.‏ وكان كمستكين في المقدمة فهرب إلى حلب واستولى سيف الزين على مخلفة وسواده وعاد إلى نصيبين فملكها وبعث العساكر إلى الخابور فاستولى عليها وعلى أقطاعها‏.‏ ثم سار إلى حران وبها قايماز الحراني مولى نور الدين فحاصرها أياماً ثم استنزله على أن يقطعه حران‏.‏ فلما نزل قبض عليه وملكها‏.‏ ثم سار إلى الرها وبها خادم لنور الدين فتسلمها وعوضه عنها قلعة الزعفراني من جزيرة ابن عمر وانتزعها منه بعد ذلك‏.‏ ثم سار إلى الرقة وسروج فملكها واستوعب بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر لامتناعها وسوى رأس عين كانت لقطب الدين صاحب ماردين وهو ابن خاله‏.‏ وكان شمس الدين علي بن الداية بحلب وهو من أكبر أمراء نور الدين ومعه العساكر ولم يقدر على مدافعة سيف الدين فخر الدين عبد المسيح‏.‏ وكان نور الدين تركه قبل موته بسيواس مع ذي النون بن الدانشمند‏.‏ فلما مات نور الدين رجع إلى صاحبه سيف الدين غازي وهو الذي كان ملكه فوجده بالجزيرة وقد ملكها فأشار عليه بالعبور إلى الشام‏.‏ وعارضه آخر من أكبر الأمراء في ذلك فرجع سيف الدين إلى قوله وعاد إلى الموصل وأرشد صلاح الدين إلى الملك الصالح وأهل دولته يعاتبهم حيث لم يستدعوه لمدافعة سيف الدين عن الجزيرة ويتهدد ابن المقدم وأهل الدولة على انفرادهم بأمر الملك الصالح دونه وعلى قعودهم عن مدافعة سيف الدين غازي‏.‏ ثم أرسل شمس الدين بن الداية إلى الملك الصالح يستدعيه من دمشق إلى حلب ليدافع شمس الدين ابن عمه قطب الدين عن الجزيرة فمنعه أمراؤه عن ذلك مخافة أن يستولي عليه ابن الداية والله حصار الإفرنج بانياس ولما مات نور الدين محمود اجتمع الإفرنج وحاصروا قلعة بانياس من أعمال دمشق‏.‏ وجمع شمس الدين بن المقدم العساكر وسار عن دمشق وراسل الإفرنج وتهددهم بسيف الدين صاحب الموصل وصلاح الدين صاحب مصر فصالحوه على مال يبعثه إليهم‏.‏ واشترى من الإفرنج وأطلعهم وتقررت الهدنة‏.‏ وبلغ ذلك صلاح الدين فنكره واستعظمه وكتب إلى الصالح وأهل دولته بقبح مرتكبهم ويعدهم بغزوة الإفرنج وقصده إنما هو طريقه إلى الشام ليتملك البلاد وإنما صالح ابن المقدم الإفرنج خوفاً منه ومن سيف الدين والله تعالى أعلم‏.‏

  استيلاء صلاح الدين على دمشق

ولما كان ما ذكرناه من استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة خاف شمس الدين ابن الداية منه على حلب‏.‏ وكان سعد الدين كمستكين قد هرب من سيف الدين غازي إليه فأرسله إلى دمشق ليستدعي الملك الصالح للمدافعة‏.‏ فلما قارب دمشق أنفذ ابن المقدم إليه عسكراً‏.‏ فنهبوه وعاد إلى حلب‏.‏ ثم رأى ابن المقدم وأهل الدولة بدمشق أن مسير الصالح إلى حلب أصلح فبعثوا إلى كمستكين وبعثوا معه الملك‏.‏ الصالح‏.‏ فلما وصل إلى حلب قبض كمستكين على ابن الداية وأخوته وعلى رئيس حلب ابن الخشاب وعلى مقدم الأحداث بها‏.‏ وخشي ابن المقدم وأمراؤه بدمشق غائلته فكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل أن يملكوه فأحجم عن المسير إليهم وظنها مكيدة‏.‏ وبعث بخبرهم إلى كمستكين وصالحه على مال أخذه من البلاد فكثر ارتياب القوم في دمشق فكاتبوا ا صلاح الدين بن أيوب فسار إليهم ونكب عن الإفرنج في طريقه وقصد بصرى وأطاعه صاحبها‏.‏ ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج إليه أهل الدولة بمقدمهم شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم وهو الذي كان أبوه سلم سنجار لنور الدين سنة أربع وأربعين كما مر ودخل صلاح الدين دمشق آخر ربيع سنة سبعين ونزل دار أبيه المعروفة بدار العفيفي‏.‏ وكان في القلعة ريحان خديم نور الدين فبعث إليه صلاح الدين القاضي كمال الدين الشهرزوري بأنه على طاعة الصالح والخطبة له في بلاده وأنه إنما جاء ليرتجع البلاد التي أخذت له فسلم إليه ريحان القلعة واستولى على ما فيها من الأموال وهو في ذلك كله يظهر طاعة الملك الصالح ويخطب له وينقش السكة باسمه انتهى والله أعلم‏.‏

  استيلاء صلاح الدين على حمص وحماة

ثم حصاره حلب ثم ملكه بعلبك ولما ملك صلاح الدين دمشق من إيالة الملك الصالح استخلف عليها أخاه سيف الإسلام طغركين بن أيوب وكان حمص وحماة وقلعة مرعش وسلمية وتل خالد والرها من بلاد الجزيرة في إقطاع فخر الدين مسعود الزعفراني من أمراء نور الدين ما عدا القلاع منها‏.‏ ولما مات نور الدين أجفل الزعفراني عنها لسوء سيرته‏.‏ ولما ملك صلاح الدين دمشق سار إلى حمص فملك البلد وامتنعت القلعة بالوالي الذي بها فجهز عسكراً لحصارها وسار إلى حماة فنازلها منتصف شعبان وبقلعتها الأمير خرديك فبث إليه صلاح الدين بأنه في طاعة الملك الصالح وإنما جاء لمدافعة الإفرنج عنه وارتجاع بلاده بالجزيرة من ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل واستخلفه على ذلك عز الدين‏.‏ ثم بعثه صلاح الدين إلى الملك الصالح بحلب في الإتفاق وإطلاق شمس الدين علي حسن وعثمان تقي الدين من الاعتقال فسار عز الدين لذلك واستخلف بالقلعة أخاه‏.‏ ولما وصل إلى حلب قبض عليه كمستكين وحبسه فسلم أخوه قلعة حماة لصلاح الدين وملكها‏.‏ ثم سار صلاح الدين من وقته إلى حلب وحاصرها وركب الملك الصالح وهو صبي مناهز فسار في البلد واستعان بالناس وذكر حقوق أبيه فبكى الناس رحمة له واستماتوا دونه وخرجوا فدافعوا عسكر صلاح الدين‏.‏ ودس كمستكين إلى مقدم الإسماعيلية في الفتك بصلاح الدين فبعث لذلك فداوية منهم‏.‏ وشعر بذلك بعض أصحاب صلاح الدين وجماعة منهم معه وقتلوا عن آخرهم‏.‏ وأقام صلاح الدين محاصراً لحلب وبعث كمستكين إلى الإفرنج يستنجدهم على منازلة بلاد صلاح الدين ليرحل عنهم‏.‏ وكان القمص عند السنجيلي صاحب طرابلس أسره نور الدين في حارم سنة تسع وخمسين وبقي معتقلاً بحلب أطلقه الآن كمستكين بمائة وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير وكان متغلباً على ابن مري ملك الإفرنج لكونه مجذوماً لا يصدر إلا عن رأيه فسار بجموع الإفرنج إلى حصن الرستن سابع رجب وصالحهم صلاح الدين من الغد فأجفلوا وحاصر وهو القلعة وملكها آخر شعبان واستولى على أكثر الشام‏.‏ ثم سار إلى بعلبك وبها يمن الخادم من موالي نور الدين فحاصرها حتى استأمنوا إليه فملكها منتصف رمضان من السنة وأقطعها شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم بما تولى له من إظهار طاعته بدمشق وتسليمها له والله تعالى أعلم‏.‏

 حروب صلاح الدين مع سيف الدين غازي صاحب الموصل

وغلبة إياه واستيلائه على بغدوين وغيرها من أعمال الملك الصالح ثم مصالحته على حلب لما ملك صلاح الدين حمص وحماة وحاصر حلب كاتب الملك الصالح إسماعيل من حلب إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده فجمع عساكره واستنجد أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار فلم يجبه لما كان بينه وبين صلاح الدين وأنه ولاه سنجار ويطمعه في الملك فبعث سيف الدين غازي بالعساكر لمدافعة صلاح الدين عن الشام في رمضان سنة سبعين وخمسمائة مع أخيه عز الدين مسعود وأمير جيوش عز الدين القنذار وجعل التدبير إليه وسار هو إلى سنجار فحاصر بها أخاه عماد الدين وامتنع عليه‏.‏ وبينما هو يحاصره جاءه الخبر بأن صلاح الدين هزم أخاه عز الدين وعساكره فصالح عماد الدين على سنجار وعاد إلى الموصل‏.‏ ثم جهز أخاه عز الدين في العساكر ثانية ومعه القنذار‏.‏ وساروا إلى حلب فانضمت إليهم عساكره وساروا جميعاً إلى صلاح الدين فأرسل إلى عماد الدين بالموصل في الصلح بينه وبين الملك الصالح على أن يرد عليه حمص وحماة ويسوغه الصالح دمشق فأبى إلا ارتجاع جميع بلاد الشام واقتصاره على مصر فسار صلاح الدين إلى عساكرهم ولقيها قريباً من حماة فانهزمت وثبت عز الدين قليلاً‏.‏ ثم صدق عليه صلاح الدين الحملة فانهزم وغنم سوادهم ومخلفهم واتباع عساكر حلب حتى أخرجهم منها وحاصرها وقطع خطبة الملك الصالح وبعث بالخطبة للسلطان في جميع بلاده‏.‏ ولما طال عليهم الحصار صالحوه على إقراره على جميع ما ملك من الشام‏.‏ ورحل عن حلب عاشر شوال من السنة وعاد إلى حماة‏.‏ ثم سار منها إلى بغدوين وكانت لفخر الدين مسعود بن الزعفراني من أمراء نور الدين وكان قد اتصل بالسلطان صلاح الدين واستخدم له‏.‏ ثم فارقه حيث لم يحصل على غرضه عنده فلحق ببغدوين وبها نائب الزعفراني فحاصرها حتى استأمنوا إليه‏.‏ وأقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي وأقطع حمص ناصر الدين بن عمه شيركوه وعاد إلى دمشق آخر سنة سبعين‏.‏ وكان سيف الدين غازي صاحب الموصل بعد هزيمة أخيه وعساكره عاد من حصار أخيه بسنجار كما قلناه إلى الموصل فجمع العساكر وفرق الأموال‏.‏ واستنجد صاحب كيفا وصاحب ماردين وسار في ستة آلاف فارس وانتهى إلى نصيبين في ربيع سنة إحدى وسبعين فأقام إلى إنسلاخ فصل الشتاء وسار إلى حلب فبرز إليه سعد الدين كمستكين الخادم مدبر الصالح في عساكر حلب‏.‏ وبعث صلاح الدين عن عساكره من مصر وقد كان أذن لهم في الانطلاق فجاؤوا إليه‏.‏ وسار من دمشق إلى سيف الدين وكمستكين فلقيهم بتل الفحول وانهزموا راجعين إلى حلب وترك سيف الدين أخاه عز الدين بها في جمع من العساكر وعبر الفرات إلى الموصل يظن أن صلاح الدين في اتباعه‏.‏ وشاور الصالح وزيره جلال الدين ومجاهد الدين قايماز في مفارقة الموصل إلى قلعة الحميدية فعارضاه في ذلك‏.‏ ثم عزل القنذار عن إمارة الجيوش لأنه كان جر الهزيمة برأيه ومفارقته وولى مكانه مجاهد الدين قايماز‏.‏ ولما انهزمت العساكر أمام صلاح الدين وغنم مخلفها سار إلى مراغة وملكها وولى عليها‏.‏ ثم سار إلى منبج وبها صاحبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي وكان شديد العداوة لصلاح الدين فملك المدينة وحاصره بالقلعة وضيق مخنقه‏.‏ ثم نقب أسوارها وملكها عليه عنوة وأسره‏.‏ ثم أطلقه سليباً فلحق بالموصل وأقطعه سيف الدين الرقة‏.‏ ولما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة إعزاز وهي في غاية المنعة فحاصرها أربعين يوماً حتى استأمنوا إليه فتسلمها في الأضحى‏.‏ ثم رحل إلى حلب فحاصرها وبها الملك الصالح واشتد أهلها في قتاله فعدل إلى المطاولة‏.‏ ثم سعى بينهما في الصلح وعلى أن يدخل فيه سيف الدين صاحب الموصل وصاحب كيفا وصاحب ماردين فاستقر الأمر على ذلك وخرجت أخت الملك الصالح إلى صلاح الدين فأكرمها وأفاض عليها العطاء وطلبت منه قلعة إعزاز فأعطاها إياها ورحل إلى بلاد الإسماعيلية والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 عصيان صاحب شهروزور على سيف للدين صاحب الموصل ورجوعه

كان مجاهد الدين قايماز متولي مدينة إربل وكان بينه وبين شهاب الدين محمد بن بدران صاحب شهرزور عداوة‏.‏ فلما ولى سيف الدين مجاهد الدين قايماز نيابة الموصل خاف شهاب الدين غائلته عن تعاهد الخدمة بالموصل وأظهر الامتناع وذلك سنة اثنتين وسبعين فخاطبه جلال الدين الوزير في ذلك مخاطبة بليغة وحذره ورغبه فعاود الطاعة وبادر إلى